إسم يوحي إليك بأنها طاهرة مباركة جميلة، تماماً كالفجر في طهره وبركته وجماله، هكذا رأيتها وهكذا عرفتها في المرة الأولى، في ذاك اللقاء الذي لم يتكرر بعدها إلاّ كما يتكرر الفجر، يبقى رغم تكراره محتفظ بطهره السَّامي وبركته الجمَّة وجماله الآسر، كان ذلك في إحدى السنوات التي لم أُعلِّمها بتاريخ ولكنها علَّمتني كيف يمكن للظلام أن ينير، وكيف للتائه الحائر أن يجد ضالته أخيراً، فأنا لم احفظ لذاك اليوم تاريخاً ولكن من عنده ابتدأ تاريخي بتقويم جديد يحمل اسمي واسمها، ولدتني أمي في شتاء قديم ثم ماتت فور ولادتي، وولدني ذلك اليوم الذي رأيتها فيه حين انزلق قلبي كجنين من رحم الحياة..حياةٌ كل شئ فيها أصبح مختلف دون قدرة مني على مقارنتها مع ما سبق من حياتي، أو إدراك شامل لما كان من حال بما صار إليه، علمني ذلك اليوم أن الحُبِّ يأتي استراق من الحياة على حين غفلة منها ذات صدفة، وكأنما نقتص من الحياة وإنتكاساتها وروتينها بذلك الاستراق الأغلى على الإطلاق.
كان الجو صيفاً حين
ها وكنت في آخر سنةٍ من سنوات دراستي الجامعية بكليةِ التجارة، أذكر أنني حينها كنت امتحن آخر الامتحانات لي بالكلية، لم يثنيني خوفي من المادة الصعبة عن رحلتي إلى القاهرة بالرغم من أنه كان يسبقها يومان فقط، وكالعادة آثرت الذهاب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن مراجعتي لذلك الامتحان المصيري، دائماً يوجهني الشغف وليست المسؤولية، ويجعلني الحب أسافر بلاد وأطوف كالعاشق رامياً بكل شئ عرض الحائط، ولم يكن حينها أي شئ أحب إليَّ من الأدب والروايات، منذ أن بدأت رحلتي من مجلة ميكي في طفولتي بدأ تعلقي بهذا العالم، بالحكايات التي تسرق مني تركيزي لأيام وتجعلني اتسائل دون أن أجد إجابات في أغلب الأوقات، وتغرقني بمشاعر شتى، وبعد جلسة مع صديقي المقرب زكريا، ذلك الوغد القروي صديق عمري، تمكنت من خداع نفسي وتخدير مؤقت لضميري الدراسي ريثما أعود من رحلتي، حيث دعمني بكل ما بوسع صديق وغد أن يدعم صاحبه فيما نوى فعله حتى لو خاطئاً، فشددت الرحال فجراً إلى قاهرة المعز ملقياً بتهديدات دكتور المادة وبحالة الذعر بين زملائي بسبب هذا الامتحان أدراج الرياح، وذهب معي زكريا إلى القاهرة رغم أنه ليس من محبي الكتب.
ها وكنت في آخر سنةٍ من سنوات دراستي الجامعية بكليةِ التجارة، أذكر أنني حينها كنت امتحن آخر الامتحانات لي بالكلية، لم يثنيني خوفي من المادة الصعبة عن رحلتي إلى القاهرة بالرغم من أنه كان يسبقها يومان فقط، وكالعادة آثرت الذهاب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن مراجعتي لذلك الامتحان المصيري، دائماً يوجهني الشغف وليست المسؤولية، ويجعلني الحب أسافر بلاد وأطوف كالعاشق رامياً بكل شئ عرض الحائط، ولم يكن حينها أي شئ أحب إليَّ من الأدب والروايات، منذ أن بدأت رحلتي من مجلة ميكي في طفولتي بدأ تعلقي بهذا العالم، بالحكايات التي تسرق مني تركيزي لأيام وتجعلني اتسائل دون أن أجد إجابات في أغلب الأوقات، وتغرقني بمشاعر شتى، وبعد جلسة مع صديقي المقرب زكريا، ذلك الوغد القروي صديق عمري، تمكنت من خداع نفسي وتخدير مؤقت لضميري الدراسي ريثما أعود من رحلتي، حيث دعمني بكل ما بوسع صديق وغد أن يدعم صاحبه فيما نوى فعله حتى لو خاطئاً، فشددت الرحال فجراً إلى قاهرة المعز ملقياً بتهديدات دكتور المادة وبحالة الذعر بين زملائي بسبب هذا الامتحان أدراج الرياح، وذهب معي زكريا إلى القاهرة رغم أنه ليس من محبي الكتب.
قضيت يوماً رائعاً وشاقاً في المعرض، اتنقل بين القاعات واتجول واتصفح الكتب والروايات واشتري بنصف تحويشة العام ما قد دونته من أسماء كتب وروايات لأضيفه في مكتبتي التي تكبر يوماً بعد يوم أمام عيني، وقد تمت المهمة بنجاحٍ عظيم، وحصلت على غنيمة من الكتب أتعبتني من ثقلها.
في طريق رجوعي من القاهرة، كنَّا في أتوبيس، كنت أنا بجانب النافذة كعادتي، بينما زكريا على المقعد الخلفي لي بجانب النافذة هو الآخر، فلقد تنازعنا على الجلوس بجوار الشباك فانتهى بنا الحال على هذا الوضع الغريب، لم يتبقى أي مقاعد فارغة في الأتوبيس إلا المقعد المجاور لي، بعد لحظات جاءت فتاة منتقبة بنقاب أسودٌ أنيق وجلست بجواري وانطلق الباص، غلبني النوم بعد وقت فنمت قليلاً ثم استيقظت لأجد شيئاً اهتز له قلبي اهتزازا لما به من بهجة، الفتاة المنتقبة تفتح مصحفاً صغيراً وتقرأ بلا صوت، شعرت بسكينة غريبة تجتاحني وتدعوني للتأمل، فتحت الشباك قليلاً، استندت عليه وأنا أسترق النظر إليها من وقتٍ لآخر، اقترب موعد وصولي لطنطا "بلدي"، لم تنزل الفتاة بعد رغم أن الأتوبيس قد فرغ تقريباً من الركاب، أخرجت الكتب التي اشتريتها لأتأملها، فخطر لي فكرة وعزمت على تنفيذها فوراً، أخرجت القلم من جيب قميصي واخترت كتاب ديني من الكتب الدينية القليلة التي اشترتيتها، حاولت أن أكتب عليه أي شئ يدل على بهجتي وارتياحي لتلك الفتاة فكتبت في أول صفحة من الكتاب:
"الطريق من القاهرة لطنطا يأخذ ساعات في العادة..ولكن تلك الساعات بمرآكِ كانت دقائق!
يا ذات النقاب...ألا أعرفك ولكني أهديكِ هذا الكتاب"
وتركت الكتاب على الكرسي وهممت بالنزول من الباص بعدما ودعت رفيقي الذي سينزل في المحطة التالية، لم أكن أريد من الفتاة شئ، ربما كان كل همي أن توافق هواها تلك الهدية فتفرح بها، نزلت وأنا أدعوا ألا ترى الفتاة الكتاب الذي تركته لها وتنبهني لأخذه..ولكن الحمد لله لم تنتبه، ونزلت من الباص إلى بيتي.
في المساء رنَّ هاتفي، فتحت فجائني صوت فتاة رقيق جداً ومرتبك:
-ألو..السلام عليكم..الأستاذ أيمن معايا
رددت وأنا متعجب، فنادراً ما يكلمني أحد لا أعرفه:
-وعليكم السلام.. أيوا صحيح أنا أيمن.. مين معايا؟
قالت وقد زاد ارتباكها وترددها:
-أنا فاطمة الي كنت قاعدة جانبك في الباص النهارده واحنا راجعين من القاهرة
شعرت بقلبي يدق بقوة وسرعة قبل أن تكمل كلامها قائلة:
-واضح انك نسيت كتاب على الكرسي قبل ما تنزل..الكتاب معايا أقدر أوصلهولك ازاي؟
فعرفت أن صديقي الوغد أعطاها رقم هاتفي، استجمعت شجاعتي وقلت :
-بس أنا ما نسيتوش!
صمتت قليلاً، فأردفتُ سائلاً لها:
-فتحتي أول صفحة ؟
صمتت الفتاة أكثر وأظن أنها فتحت الكتاب في تلك اللحظات، بعدها شعرت بارتباكها الشديد حين استأذنت وأغلقت الخط!
بعد نصف ساعة اتصلت ثانياً ودون أي مقدمات قالت:
-شكراً على لطفك والله بس انا مش هقدر أقبل الهدية دي
سألتها:
-ليه؟
فقالت:
-آسفة والله معلش..مش هقدر أقبلها
ثم وصفت لي عنوان بيتها لأذهب وآخذ منها الكتاب، كنت قد قررت لوهلة أني لن أذهب ولكن الفضول ساقني إلى هناك لأراهاً مرة أخرى، وكان الكتاب حجتي.
ذهبت وقابلتها للمرة الثانية، والتي لم تختلف عن الأولى بل لم تختلف أبداً إلى الآن. كانت لطيفة جداً، مظهرها يوحي إلي بسكينة غريبة، أظن أنها كانت مبتسمة طوال الوقت، أو ربما أنا الذي خلتها كذلك، وبمجرد ما أعطتني كيسٌ أبيض استأذنت بسرعة وذهبت، ووقفت أنا أرقب غروبها حتى دخلت في إحدى انحناءات الشارع الترابي، ومن ثم عدت إلى بلدتي، كنت غارقاً في تفكيري، لم أشعر أن الكيس الذي أعطتني إياه ثقيل بعض الشئ إلا حين اقتربت من منزلي، فتحت الكيس فوجدت به أكثر من كتاب، لم يكن الكتاب الذي أهديته لها من بين تلك الكتب، تصفحت الكتب فوجدتها عظيمة جداً وكأنني أنا من اختارها، كان من بين تلك الكتب كتاب (السحاب الأحمر للرافعي) ورواية (البؤساء) لڤيكتور هوجو التي لطالما بحثت عنها.
بعد يومين ذهبت إليها بصحبة والدي وخالي، ليس لأعيد لها الكتب..بل لأحصل عليها هي!
وقد كانت فاطمة أثمن ما حصلت عليه في حياتي، وبالرغم من أنني لم أحصل على التقدير المثالي في آخر الإمتحانات إلا أنني لم أندم أبداً على رحلتي إلى القاهرة!
ومضى العمر، وما أجمل أن يمضي العمر بجوار من نحب، من إذا ضاقت بنا الحياة وجدنا في قلبه متسع وبراح لنا، ومن إذا خذلنا الناس كان لنا سنداً لا يميل.
والآن وبعد مرور ثلاثون عاماً من زواجنا، أنجبت لي فاطمة ولدين كريمين وبنت كالقمر تشبهها، أسميتها فجر لأذكر تلك الصدفة الجميلة التي جمعتني بأمها.
فيما احتفظت فاطمة بطبيعتها التي تشبه الفجر، دونما أن تؤثر تلك السنوات في شئ..ونحن نمضي متجاوزين عقدنا الخامس من العمر، كانت فاطمة كالفجر بطهرها السامي وبركتها الجمة وجمالها الآسر، كانت تماماً كالفجر لا يزيدها تقدم العمر إلاّ إشراقاً.