ماذا تعطينا القراءة؟ وما أعظم أهمية لها؟ بقلم: جبريل (السماوي)...


 

السياحة إلى عالم التصوّرات .

يحدث أن يعكف القارئ على رواية أدبية فيضيع ضياعا عظيما داخل سطور هذه الرواية أو الكتاب أو يجلس منعزلا بعيدا عن الضجيج وفوضى الأشياء.. ليسافر إلى أعماق عالم التصوّرات والأفكار، عاريا من كوكب الواقع ومن كلّ شيء. يترك الكون ومجرياته كلّها خارجًا، ويرمي الزمان خلفه ليعيش تجربة أخرى مع الذات والروح. فيقطع الصلات مع بيئته وتتناغم نفسه مع أفكار الرواية أو الكتاب أو يغرق في عالمه الخاص سابحا داخل ذهنه..للعثور عمّا يسدّ به الفراغ المعرفي 

عندما أعيش مثل هذه الحالات في الخيال أفهم كلام دوستوفيسكي عندما قال في (مذكرات من منزل الأموات) "لم يكن سجنهُ في سيبيريا وسط الأعمال الشاقة وإنما كان سجنهُ الحقيقي في ذهنه..ففي الذهن يكون الناس إمّا أحراراً أو سجناء" 


القارئ لا يبقى في قبضة الوحشة ولا يغرق تحت محيط الوحدة مطلقا، لأنّ في عقله مليار كاتب يمكن أن يتسامر معهم طوال الليل، فيحكون له مئات من الحكايات والمغامرات. وفي داخله آلاف من الحروف والكلمات يمكن أن يصيّرها مدونّة ويقرأها متلذّذا منغمسا في ظلال المتعة الروحية .

 مولانا ابن تيمية رحمه الله فهم هذا الأمر جيّدا عندما قال ‏"ماذا يفعل بي أعدائي، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة" لأنّه في السجن سيرتّب أفكاره المتلاشية داخل صدره، ويتأمّل في ملكوت الرحمان وربّما يؤلف كتبا في ذهنه حتى بدون قلم ولا ورقة. 

العملاق الروائي الشاب الحزين (فرانس كافكا ) فهم هذا جيّدا عندما قال " على الفكر أن يكون تلك الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا " ونجد (نلسون مانديلا ) يقول "من الأشياء التى جعلتنى أتوق للعودة للسجن مرة أخرى هو أنني لم تعد لديّ فرصة كبيرة للقراءة والتفكير والتأمل الهادئ بعد إخلاء سبيلي" لأنّ الكتب كانت تهرب به من السجن إلى الأزمنة والعصور السالفة حرّا طليقا يستنشق أنسام المعرفة .

عندما قرأت المناظرة بين الامام الأوزاعي وغيلان الدمشقي أصبحتٌ ضائعا في ذاتي وكأنني كنت في مكان المناظرة وحزنتٌ كثيرا على غيلان عندما أعدمه هشام ابن عبد الملك ظلما ونقمة. عندما قرأت محنة مولانا أحمد ابن حنبل -أنار الله قبره- ذرفت عيوني دمعا وحزنا وكأنّ بيني وبينه صلة قرابة، شاهدته داخل السجن وهو يتأوّه ألما وكمدا من العذاب الأليم، فرقّ لحاله قلبي وتمنّيتٌ لو حملت أشجانه .

عندما حكمت  الكنيسة الرومانية على المفكر والفيلسوف العظيم (جاليلو ) بالسجن المؤبّد، غضبتٌ كثيرا ورأيت كيف تستخدم السلطة قانون القوّة لدفن الحقيقة في غياهب السجن، دفاعا عن المصلحة الشخصية والمكسبة الفردية ...

عندما تقرأ أنت رواية الحرب والسلام ل (تولوستوي)  ستقضي ساعات طوال تقلب فيها الصفحات رغبة في معرفة ما الذي حدث لبيير أو أندريه أو ناتاشا أو روستوف. ستفكر في الأحداث كثيرا، وتتأمل تطور شخصياتهم وستتحدث لأصدقائك عنهم وكأنك تعرفهم جيدًا. سوف يمضي بك فضولك لأن تبحث عن الحروب النابليونية في روسيا.

عندما تقرأ عن التحوّل العظيم الذي حدث في حياة الزاهد الحافي إبراهيم الأدهم  -رحمه الله- بسبب قوله تعالى ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومنا نزل من الحق..) ستبكي على حاله وأنت تراه حافيا زاهدا ورعا، تاركا وراءه السلطة والجاه والمال والولد ، ذاهبا إلى الله، باحثا عنه في الفلوات منفردا .


صديقي القارئ ...طالما أنت تقرأ وتتصفّح الورقات للاطلاع ستعثر على قارات أخرى غير القارات الخمس وستكتشف مليارات أسرار وعوالم ..ستذهب رحلة الأفكار إلى أقصى زاوية في الكون وترجع وفي جعبتك كنوزا من الانطباعات والنقد على القناعات وتحصل على أصدقاء جدد ..ستجد في داخلك عشرات من الكٌتّاب والقصاصين والمؤلفين والروائيين والعارفين، يزيلون رتابة الحياة عنك .


جبريل السماوي

تعليقات