عندما يُرسل الربُّ الظّلامَ إلى هذا المعمورة الرّحبة.. ليهيئ للشاردين في وجه الكون سكنًا لهم. وينام كلّ شيء تحت عباءةِ الليل المفعم بأسرار الله سبحانه وتعالى.. أرتمي إلى الحصير حزينًا كدرويش يُفتّش عن قنديل الرّوح، تحت همسات المناجاة والصلوات. فأجلس مع عظماء التّاريخ وشيوخ الفكر..أولئك الذين موْسقوا الحرف والأبحديّة طوال حياتهم، لأجل أن يصنعوا للبشر دفئة تصلح لغفوة أرواحهم. هؤلاء هم الأدباء والعلماء والنبلاء الذين داعبوا الإنسان وتناولوا قضاياه العظيمة من خلال فردسة الكلمة والعزف على الأبجدية. أحاول أن أدفعُ نفسي إلى صفحات الكتب، باتجاه أبعد نقطة يدركها العقل. أسيرُ كقصيدةٍ حذرة في أيام وعرة. وأحاول استخرج ما خلف فقراتها من الكنوز المعرفية .
فأكثر الكُتب التي أعكف عليها لهضمها هضما.. قد رحل مخترعوها إلى السماء ..إلى الأصل الذي سنرجع هناك يوما. ذهبوا رحلة اللاعودة إلى الحياة الآخرة.. لكن صاروا قصّة حياة لا يمكن نسيانهم..لأنهم خلدوا في شريط ذكريات التاريخ العظيم .
مع سيّد قطب أغوص في عمق محيط الأفكار الاسلامية فأفتخر بديني وأسلك طريقا للعروج إلى ربّي. مع الغزالي أستنشق عبير التصوّف السنّي من خلال بساتين الإحياء. مع الحافظ الذهبي أدور في فضاء الأولياء والعارفين عند سير أعلام النبلاء. مع دوستوفيسكي أشاهد أتعس سيناريوهات البؤس في شاشة الأدب الحزين. مع نجيب محفوظ أقرأ الحرف العربي بنكهة أخرى أكثر متعة وفلسفة. مع توفيق الحكيم أقرأ أنباء الرّوح فأرى نفسي في مراياها وأتحدث معها هروبا من الواقع المملّ. مع جان جاك روسو أعترف له عمق القلم وجمال الفكر من خلال اعترافاته. مع ملفل الأمريكي ، أكوبري الفرنسي، سيمون فرويد ، بفلوف، عبد الفتاح كليطوا..كلّ هؤلاء الكبار يعطون للّيل جماله، ويخترعون لك رُضاب المعرفة تمتصّ منه امتصاصا .
الارتماء إلى فناء هؤلاء العظماء متعة فنّية ورحلة سياحيّة جميلة عبر الأزمنة إلى التاريخ القديم، إلى عالم الأفكار، إلى أيّام العمر الماضي . إنّ بنات أفكارهم واختراعاتهم الفكريّة ما زالت تنعش أرواح القرّاء رغم رحيلهم إلى دار الحقّ . لقد صدق خليل لمّا قال : إنّ المفكّر لا يموتُ ..وواجبنا نقل تجربته وتطويرها.
هؤلاء رغم غيابهم الطويل، يستطيعون مساندتنا نحن "البشر العاديين" على فهم أسرار هذه الحياة وفلسفة هذه التجربة الانسانيّة فوق الأرض.
إن النفس البشرية واحدة.. برغم أن البشر أشكال وألوان وألسنة مختلفة، والحياة برغم بساطتها ممزوجة بسرّ ربّاني.. وهناك من يغوص وراء هذا السر. أحيانا يرى المرء طرفا من هذا السرّ.. وتارةَ يتوهم أنه رأى عباءة السرّ العظيم وهي تنسدل عليه. أعتقد بأنّ الرّقم المشفّر الكامل لفتح صندوق هذا السرّ لا يوجد إلاّ في القرآن الكريم ( إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) لقد صدق مولاي سيّد قطب عندما قال أنّ هذا الكتاب المجيد جاء ليعلّمنا ( منهاج الحياة )
القراءة لهؤلاء الأموات الأحياء، تعطيك انطباعا خارقا عظيما... وهو أنّ الحياة عبارة عن رحلة قطار إلى الرحمان ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السّجود ..) كلّ إنسان يهبط من القطار عندما يصل إلى محطّة الرّدى ويُقابل ملك الموت ليُسلّم روحه . وما هذه الحياة الدّنيا إلاّ سيناريو عظيم وكلّ نفس فيها تلعب أدوارا معيّنة، ثمّ تذهب خلف الستار، ويختفي إلى يوم المعاد .إنّه الموت والعودة إلى الأصل يا أيها القارئ الجميل .
الموت هو الرحلة التي تذهب إليها بغير جواز سفر، ولا ترتيبات الجمارك. وأسعد الناس من يدرك أن الدنيا حلم يستغرق سنوات ثمّ يمضي. والشيء الوحيد الذي يأخذه الإنسان بعد موته هو كتابه الذي كان يكتبه من خلال قلم الطاعة أو المعصية. ولهذا قيل إن كل إنسان بعد الموت مؤلّف ..حتى لو كان يجهل القراءة والكتابة. هناك كتاب واحد أنت مسئول عنه..وهو الكتاب الذي يقصده الحق تعالي بقوله: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا.
جبريل عائشة لي السّماوي